01- رسالة الذل والانكسار للعزيز الجبار للإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله – قراءة وتعليق – المجلس 1
رسالة الذل والانكسار للعزيز الجبار للإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله – قراءة وتعليق – المجلس الأول
لفضيلة الشيخ د/محمد بن عبد العزيز العواجي -حفظه الله وبارك فيه-
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(وبه نستعين والحمد لله رب العالين)([1])
قال الحافظ العلامة زين الدين ابن الشيخ أبو العباس أحمد بن رجب أمر الله في عمره البركة: هذه رسالة عملناها في الخشوع وانكسار القلب للرب.
الحمدُ لله جابر قلوب المنكسرة قلوبهم من أجله، وغافر ذنوب (المستغفرين)([2]) بفضله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ولا شيء كمثله، وأشهد أن مُحَمَّدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره عَلَى الدين كله، وخَيَّرَهُ بين أن يكون (ملكًا نبيًّا)([3]) أو عبدًا رسولاً([4])، فاختار مقام العبودية مع (الرسالة)([5]).
(وكان)([6]) يقول:«اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ المَسَاكِينِ»([7]) (تنويهًا بشرف)([8]) هذا المقام وفضله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، والمستمسكين من بعدهم بحبله.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى مدح في كتابه المخبتين له، والمنكسرين لعظمته، والخاضعين والخاشعين لها.
فَقَالَ الله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (الأنبياء: 90).
وقال تعالى: {وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} إِلَى قوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (الأحزاب: 35).
ووصف المؤمنين بالخشوع له في أشرف عباداتهم التي هم عليها يحافظون، فَقَالَ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (المؤمنون: 1 – 2).
ووصف الذين أوتوا العِلْم بالخشوع حيث يكون كلامه لهم مسموعًا، فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (الإسراء: 107 – 109).
وأصل الخشوع هو: لين القلب ورقته وسكونه وخضوعه وانكساره وحرقته فَإِذَا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح والأعضاء؛ لأنها تابعة له، كما قال صلى الله عليه وسلم: “أَلاَ إِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ”([9]).
فَإِذَا خشع القلب خشع السمع والبصر والرأس والوجه، وسائر الأعضاء وما ينشأ منها حتى الكلام. لهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه في الصلاة: “خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي” وفي رواية: “وَمَا اسْتَقَلَّ بِهِ قَدَمِي”([10]).
ورأى بعض السلف رجلاً يعبث بيده في “الصلاة) ([11]) فَقَالَ: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه.
وروي ذلك عن حذيفة([12]) رضي الله عنه وسعيد بن المسيب([13]). ويروى مرفوعًا([14]) لكن بإسناد لا يصح.
قال المسعودي عن أبي سنان عمن حديثه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (المؤمنون: 2) قال: هو الخشوع في القلب، وأن تُلِيّن كَنَفَكَ للمرء المسلم، وأن لا تلتفت في صلاتك([15]).
وقال عطاء بن السائب عن رجل عن علي رضي الله عنه: الخشوع خشوع القلب، وأن لا (تلتفت)([16]) يمينًا ولا شمالاً.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} قال: خائفون ساكنون([17]).
وقال ابن شوذب عن الحسن رحمه الله تعالى: كان الخشوع في قلوبهم فغضوا له البصر وخفضوا له الجناح.
وقال منصور عن مجاهد: (أصل)([18]) الخشوع في القلب، والسكون في الصلاة.
وقال ليث عن مجاهد: من ذلك خفض الجناح وغض البصر، وكان المسلمون إذا قام أحدهم إِلَى الصلاة خاف ربه أن يلتفت عن يمينه أو شماله.
وقال عطاء الخراساني: الخشوع خشوع القلب والطرف.
وقال الزهري: هو سكون العبد في صلاته.
وعن قتادة قال: الخشوع في القلب هو الخوف وغض البصر في الصلاة.
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (الأنبياء: 90) قال: متواضعين وقد وصف الله تعالى في كتابه الأرض بالخشوع فَقَالَ: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} (فصلت: 39)، فاهتزازها وربوها -وهو ارتفاعها- مزيل لخشوعها، فدل عَلَى أن الخشوع الَّذِي كانت عليه هو سكونها وانخفاضها، (فكذلك)([19]) القلب (إِن)([20]) خشع فإنه تسكن خواطره وإراداته الرديئة، التي تنشأ (من)([21]) اتباع الهوى وينكسر ويخضع لله عز وجل. فيزول بذلك ما كان فيه من النأو([22]) والتزفع والتكبر والتعاظم، ومتى سكن ذلك في القلب خشعت الأعضاء والجوارح والحركات كلها حتى الصوت، وقد وصف الله تعالى الأصوات بالخشوع في قوله: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاً تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} (طه: 108)، وخشوع الأصوات هو سكونها وانخفاضها بعد ارتفاعها.
وكذلك وصف وجوه الكفار وأبصارهم في يوم القيامة بالخشوع، فدل ذلك عَلَى فى دخول الخشوع في هذه الأعضاء كلها، ومتى تكلف الإنسان تعاطي الخشوع في جوارحه وأطرافه -مع فراغ قلبه من الخشوع وخلوه منه- كان ذلك خشوع نفاق، وهو الَّذِي كان السلف يستعيذون منه كما قال بعضهم:
“استعيذوا بالله من خشوع النفاق. قالوا: وما خشوع النفاق؟ قال: أن (ترى)([23]) الجسد خاشعًا والقلب ليس بخاشع”.
ونظر عمر رضي الله عنه إِلَى شاب قد نكس رأسه فَقَالَ له: يا هذا، ارفع رأسك، فإن الخشوع لا يزيد عَلَى ما في القلب.
فمن أظهر للناس خشوعًا فوق ما في قلبه، فإنما هو نفاق عَلَى نفاق.
وأصل الخشوع الحاصل في القلب، إِنَّمَا هو من معرفة الله، ومعرفة عظمته وجلاله وكماله، فمن كان بالله أعرف (فهو)([24]) له أخشع.
وتتفاوت القلوب في الخشوع بحسب تفاوت معرفتها لمن خشعت له، وبحسب تفاوت مشاهدة القلوب للصفات المقتضية للخشوع، فمن خاشع لقوة مطالعته (لقرب)([25]) الله من عبده، واطلاعه عَلَى سره وضميره المقتضي الاستحياء من الله تعالى ومراقبته في الحركات والسكنات، ومن خاشع لمطالعته لجلال الله وعظمته وكبريائه، المقتضي لهيبته وإجلاله، ومن خاشع لمطالعته لكماله وجماله المقتضي للاستغراق في محبته، والشوق إِلَى لقائه ورؤيته، ومن خاشع لمطالعة شدة بطشه وانتقامه، وعقابه المقتضي للخوف منه وهو سبحانه وتعالى جابر القلوب المنكسرة لأجله، فهو سبحانه وتعالى يتقرب من القلوب الخاشعة له كما يتقرب ممن هو قائم يناجيه في الصلاة وممن يعفر له وجهه في التراب بالسجود، وكما يتقرب من وفده وزوار بيته (الوافدين)([26]) بين يديه، المتضرعين إِلَيْهِ في الوقف بعرفة، ويدنو ويباهي بهم الملائكة وكما يتقرب من عباده (الداعين)([27]) له، السائلين له، المستغفرين من ذنوبهم بالأسحار، ويجيب دعاءهم، ويعطيهم (سؤلهم)([28])، ولا جبر لانكسار العبد أعظم من القرب والإجابة.
وروى الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتابه “الزهد”([29]) بإسناده عن عمران القصير قال: “قال موسى بن عمران: أي رب، أين أبغيك؟ قال: ابغني عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، إني أدنو منهم كل يوم باعًا، ولولا ذلك لانهدموا”.
وروى إبراهيم بن الجنيد رحمه الله تعالى في كتاب “المحبة” بإسناده عن جعفر بن سليمان: سمعت مالك بن دينار (قال)([30]): قال موسى عليه السلام: “إلهي أين أبغيك؛ فأوحى الله عز وجل إِلَيْهِ: أن يا موسى ابغني عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، فإني أدنو منهم في كل يوم وليلة باعًا ولولا ذلك لانهدموا”، قال جعفر: قلت لمالك بن دينار: كيف المنكسرة قلوبهم؟ فَقَالَ: سألت الَّذِي قرأ في الكتب فَقَالَ: سألت الَّذِي سأل عبد الله بن سلام فَقَالَ: سألت عبد الله بن سلام عن المنكسرة قلوبهم، ما يعنى؟ قال: المنكسرة قلوبهم بحب الله عز وجل عن حب غيره”.
وقد جاء في السنة الصحيحة ما يشهد (بقرب)([31]) الله من القلب المنكسر ببلائه الصابر عَلَى قضائه أو الراضي بذلك كما في “صحيح مسلم”([32]) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: “يَقُولُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ”.
وروى أبو نعيم([33]) من طريق ضمرة عن ابن شوذب قال: “أوحى الله تعالى إِلَى موسى عليه السلام: أتدري لأي شيء اصطفيتك عَلَى الناس برسالاتي وكلامي؟ قال: لا يا رب! قال: لأنّه لم يتواضع لي أحد قط تواضعك”.
([1]) رب يسر وأعن يا كريم: “نسخة”.
([2]) المستغفرة لذنوبهم: “نسخة”.
([3]) نبيًّا ملكًا: “نسخة”.
([4]) أخرجه أحمد (2/ 231).
([5]) رسله: “نسخة”.
([6]) فكان: “نسخة”..
([7]) أخرجه الترمذي (2352)، وابن ماجه (4126) قال الترمذي: حديث غريب.
([8]) لشرف: “نسخة”..
([9]) البخاري (52، 205)، ومسلم (1599).
([10]) أخرجه مسلم (771).
([11]) صلاته: “نسخة”.
([12]) أخرجه ابن نصر في “تعظيم قدر الصلاة” (150) وضعفه شيخنا محمد عمرو في “تكميل النفع” (21).
([13]) أخرجه ابن المبارك في “الزهد” (213) وضعفه الألباني في “الضعيفة” (1/ 114).
([14]) قال الشيخ محمد عمرو في تخريجه لرسالة “الذل والإنكسار” (ص33): الحديث موضوع مرفوعًا، في سنده سليمان بن عمرو … ذكره ابن حبان في “المجروحين” (1/ 329) ونقل عن عبد الجبار بن محمد: أنه كان أطول الناس قيامًا بليل وأكثرهم صيامًا بنهار، وكان يضع الحديث وضعًا.
([15]) رواه وكيع في “الزهد” (328)، وابن المبارك في “الزهد” (1148) وغيرهما. وقال الشيخ محمد عمرو: إسناده ضعيف مداره عَلَى رجل مبهم.
([16]) يلتفت: “نسخة”.
([17]) رواه الطبري في “تفسيره” (18/ 3).
([18]) هو: “نسخة”.
([19]) وكذا: “نسخة”.
([20]) إذا: “نسخة”.
([21]) عن: “نسخة”.
([22]) النأو، لغة في: “النأي”، وهو البعد.
([23]) يُرى: “نسخة”.
([24]) كان: “نسخة”.
([25]) قرب: “نسخة”.
([26]) الواقفين: “نسخة”.
([27]) الدائبين: “نسخة”.
([28]) سؤالهم: “نسخة”.
([29]) (ص 75).
([30]) لقرب: “نسخة”.
([31]) يقول: “نسخة”.
([32]) برقم (2569).
([33]) في “الحلية” (6/ 130).